يكفي أن تلج إلى قلعة الشيخ بوعمامة، الواقعة على بعد 50 كيلومتر من دائرة عين الصفراء بولاية النعامة، لتقف على حجم الكارثة، التي ألمّت بسكان هذه المنطقة، بفعل الفيضانات، التي ضربت القلعة في أكتوبر من العام ماقبل الماضي؛ فرغم مرور كل هذه المدة عن هذه الفيضانات، إلا أن آثارها لاتزال موجودة، وكأن فيضان الوادي حدث مؤخرا، وليس قبل سنتين. والسبب راجع إلى تجاهل المسؤولين لانشغالات مئات الفلاحين، الذين فقدوا عشرات الأشجار المثمرة ويبكون يوميا نخيلهم، التي تموت ببطء أمام أعينهم، بسبب توقّف مياه السقي، التي كانت تضخّها العين الكبيرة.
بعد رحلة دامت ست ساعات كاملة عن طريق الحافلة والسيارة، وصلنا في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال قرية ''مُغرار التحتاني''، أو ما أصبح يسمّى حديثا بقلعة الشيخ بوعمامة، نسبة إلى زعيم مقاومة الجنوب، الذي احتضنته القرية ست سنوات كاملة؛ حيث لم نستغرق وقتا طويلا، لنكتشف آثار الطامّة، التي نزلت بفلاحي هذه البؤرة المعزولة. إذ تحوّلت واحتهم، التي تشكل مصدر رزقهم الأساسي من جنّة تضم أكثر من 13 ألف نخلة ومئات الأشجار المثمرة، إلى منطقة شاحبة تحتفظ بآثار أشجار يبِست وماتت من شدة العطش، وآلاف النخيل لاتزال شامخة، غير أنها تفتقد لعراجين التمور، إذ أصبحت هذه الأخيرة ناذرة في منطقة كانت تنتج آلاف القناطير من أجود التمور، التي تزخر بها الواحة، أشهرها أنواع الأغراس والفقوس.
النخيل موجود وعراجين التمور اختفت
وبالرغم من أن المُصاب جلل، والأضرار جمّة؛ إلا أن الجهات المسؤولة لم تحرّك ساكنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، حيث بعد مرور أكثر من سنتين عن الليلة المشؤومة التي حمل فيها الوادي على الواحة، لا تزال جُلّ سواقي نظام '' الفُقارة '' الذي يعتمد عليه الفلاحين لسقي بساتينهم تفتقد لنقطة مياه واحدة، وذلك بسبب استمرار انسداد العين الكبيرة الموجودة في مدخل القلعة، إذ أن سيول الأتربة والرمال، التي جرفها الوادي، آنذاك، أدّت إلى انسداد كلّ القنوات، على امتداد مسافة طويلة، ما أدّى إلى تعطل السقي وموت عدد كبير من الأشجار.
ولاستظهار حجم الأضرار، التي لحقتهم، أكد العديد من الفلاحين الذين اتصلت بهم '' الخبر''، بأنهم على غير العادة أصبحوا يشترون التمور من مناطق أخرى، حيث بعد أن ''كنا نخزن المنتوج في بيوتنا لنأكل منه طول السنة، وتصدير جزء كبير من الإنتاج والتصدق بالجزء الآخر، أصبحنا لا نقدر حتى على تلبية احتياجاتنا، وذلك بسبب تقلص الإنتاج إلى حدود قصوى، بسبب انعدام السقي، كون أن نخيل واحتنا متعوّد على المياه، خلافا للنخيل الآخر؛ وهو ما أدّى إلى تحصيل كميات زهيدة، وصلت إلى حدود 30 كلغ للنخلة الواحدة، بعد أن كان معدل الإنتاج يصل إلى قنطار ونصف من أجود أنواع التمور ''.
والغريب في الأمر، حسب المتضررين، هو أن '' قلعة الشيخ بوعمامة، لم تعلن منطقة منكوبة عقب فيضانات أكتوبر، بالرغم من أن الأضرار، التي لحقتها أكبر بكثير من الخسائر، التي طالت أماكن وجهات أخرى بالولاية، تم إعلانها مناطق منكوبة في بيان مجلس الحكومة، آنذاك، على غرار بلديتي عسلة والصفيصفة ''، مُحمّلين جزءً كبيرا من مسؤولية هذا الأمر إلى السلطات المحلية، وعلى رأسها مسؤولي بلدية مُغرار الذين ''تنصّلوا من مسؤولياتهم وأخدوا موقع المتفرّج، بدل أن يدافعوا عن المنطقة وأهلها ''.
وباستثناء الجزء السفلي للواحة الذي لايزال الإخضرار يطبعه والمياه تجري في سواقيه، استسلمت باقي أجزاء الواحة للعطش والجفاف، كون أن المنطقة تعتمد في سقيها على عين سيدي الحاج بحوص والتي كانت في منأى عن خطر الوادي، بالإضافة إلى العين الكبيرة التي تعطلت وتوقفت عن الضخ منذ حلول الكارثة. علما أن هذه الأخيرة تشكل المورد الأساسي للسقي كونها تسقي ثلاثة أرباع الواحة، وهو ما أدى إلى تسجيل أضرار جمّة وغبن كبير للسكان لدرجة أن السواد الأعظم منهم يعتمدون حاليا على مبلغ ثلاثة آلاف دينار، الذي يتقاضونه، في إطار الشبكة الإجتماعية.
ومن المفارقات الغريبة، حسب أهل القلعة، أن فيضانات أكتوبر من السنة الماضية مشابهة للفيضانات، التي ضربت الواحة في نفس الشهر من سنة 1938، حيث تسبّبت آنذاك في مقتل تسعة أشخاص وتسجيل خسائر كبيرة كانت مصدر إلهام أحد السكان، الذي نظم قصيدة شعرية، تضمّ أكثر من مائة بيت، رثى فيها المفقودين وصوّر فيها هول الفاجعة، ولا تزال مُعلقة في متحف الواحة، ويحفظها أهل المنطقة عن ظهر قلب. إلا أن الفارق، الذي يحزّ في النفس حسب السيد ''ع. أحمد''، هو أن ''الإدارة الإستعمارية في تلك الحقبة جنّدت كل الوسائل، لإعادة جبر الأضرار وإحياء الواحة من جديد، مع إقرار تعويضات لكل المتضررين، بينما لم نستفد نحن من أي فلس ولم نحظ بأيّ اهتمام، بسبب تماطل بعض الجهات عن آداء المهام المنوطة بها، الأمر الذي يجعلنا اليوم نطالب بلجنة تحقيق، ونستنجد بأعلى السلطات في البلاد للتدخل من أجل إعادة إحياء العين الكبيرة وصرف تعويضات لكل المتضررين ''.
المتضررّون يطالبون بإعادة الإعتبار لواحتهم
ويتابع سكان المنطقة، الذين لهم جذور قبلية أمازيغية، سرد محنتهم بالقول ''لما يئسنا من تدخل الجهات المسؤولة، عمدنا إلى التشمير على سواعدنا وقمنا بحملات تطوّعية في عز شهر رمضان ما قبل الماضي، الذي تزامن مع فصل الصيف، شارك فيها الشباب والمسنون وحتى الأطفال بهدف إعادة ضخّ ماء العين المغمورة. وقد نجحنا، بعد أيام من العمل، في تنظيف الفقارة من أطنان من الأتربة والأوحال، ليذهب عملنا كلّه سدى؛ حيث أتت الأمطار، التي تساقطت في نهاية الشهر الكريم وأعادتنا إلى نقطة الصفر''.
كما يُجمع الضحايا على رضاهم بالمصاب، الذي قدره الله لهم، غير أنهم يندّدون بالتجاهل والتهميش، الذي تعاملهم به السلطات الوصيّة، حيث باستثناء أشغال الحائط، الذي تم إنجازه لتحصين الواحة من الوادي والذي استهلك ما يقارب سبعة ملايير سنتيم، لم يستفد المتضرّرون من أي تمويل يذكر، رغم الوعود، التي تم توجيهها لأهل المنطقة، بتسخير مبلغ 21 مليار سنتيم، من أجل إعادة الإعتبار للواحة.
القصر القديم ..
شاهد على جريمة في حقّ معلم عمره عشرة قرون
ولا يمكن أن تزور القلعة، دون أن تعاين المعالم الأثرية، التي تزخر بها المنطقة، والتي أصبحت شاهدة على جريمة شنعاء في حق آثار عمرها قرون خلت، دون أن تحرّك وزارة الثقافة ساكنا، ماعدا بعض العمليات الترميمية، التي لم تستوف الشروط المفترضة، رغم أنها من حيث القيمة تشكّل ثروة، من شأنها استقطاب آلاف السيّاح الأجانب والمحليين. والبداية مع القصر القديم، الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن العاشر من الميلاد، والذي يوجد حاليا في مرحلة الاحتضار، ينتظر من ينقذه من الإندثار الأبدي، حيث يروي بعض المهتمين بالآثار بحسرة شديدة الحال السيء، الذي آل إليه هذا المعلم، خلال العقد الأخير، لاسيما بعد الفيضانات المتتالية، باعتبار أن الإنهيارات طالت العديد من الأسقف والجدران لدرجة أن بعض الممرات اختفت وبعض الطوابق السفلية غمرتها بقايا الإنهيارات.
ويتوفر القصر، الذي تعاقبت عليه مئات العائلات من مختلف العصور، على ثلاثة مداخل كانت تغلق في توقيت محدد، ولا يُسمح لأي أحد بالولوج إليها، خاصة أثناء فترة الإحتلال، أشهرها المدخل الرئيسي، الذي تقابله ساحة صغيرة يطلق عليها إسم '' الداير''؛ وهي المكان المخصّص لممارسة السياسة والتجارة، بدليل المحلات الستة، المترامية على أطرافها.
ولدى معاينتك لطريقة تصميم القصر، تكتشف عبقرية من كانوا وراء بنائه، حيث لم يعتمدوا سوى على مواد بسيطة محليّة، مثل الطين وجذوع النخل وجريدها. ومع ذلك صمد لمدة تفوق العشرة قرون، في شكل بنايات تضمّ طوابق علوية، تصل إليها عن طريق سلالم، صنعت بفروع النخل، مثلها مثل النوافد والأبواب، مع وجود كل مستلزمات العيش، على غرار بيت العُلى الذي يخصص لتخزين المواد الأولية، لاسيما التمور، وكذا مربط الحمار، المتاخم للمطمورة أو بيت الخلاء. إذ أن المنازل تعتمد على نظام خاصّ لتصريف الفضلات، بالشكل الذي يجعلها تستغل في الفلاحة. ويتساءل أهل المنطقة عن سرّ إدارة وزارة الثقافة ظهرها لهذا الصرح التاريخي الهام، حيث تم ترميم قصور كثيرة في المنطقة مثل بوسمغون، تيوت والصفيصفة. بينما تم تجاهل هذا القصر، رغم أهميته القصوى، مع أن العملية لا تتطلب اعتمادات مالية كبيرة، حيث يقول أهل المنطقة '' المواد الأوّلية موجودة، واليد العاملة المؤهلة متوفرة، كل ما ينقص هو توفر نيّة السلطات العمومية للحفاظ على القصر واستغلاله في المجال السياحي للبلاد ''.
وعلى بعد أمتار قليلة، توجد قبالة القصر دار الشيخ بوعمامة، وهي المكان الذي استقر فيه زعيم مقاومة الجنوب سنة 1875 وإلى غاية ,1881 حيث خلافا على القصر قامت وزارة الثقافة بإجراء ترميمات على هذا المرفق بقيمة تسعة ملايير سنتيم، غير أنها حسب الإختصاصيين لم تكن سوى عملية إعادة بناء عن طريق استعمال الإسمنت وليس ترميم بالمقاييس المفترضة.
ومع أن الدار أو الزاوية تضمّ وثائق ومخطوطات تاريخية ذات أهمية قصوى، إلا أنها لا تحظى بأيّ رعاية أو إشراف، كون أن المتحف يسير بالبركة والتطوّع، دون أي إدارة أو تأطير أو حتى حراسة، (حارس في إطار الشبكة الإجتماعية)، وكلّ ما يوجد داخل المتحف من كنوز تاريخية جُمع عن طريق التطوّع من قبل السكان وجمعية اصداقاء الشيخ بوعمامة، حيث يوجد في المتحف صور ووثائق ناذرة على غرار مخطط تقرير يخصّ نسف زاوية الشيخ بوعمامة من قبل الإستعمار مؤرخ بيوم 29 نوفمبر 1881، وبعض المراسلات من الإدارة الفرنسية إلى الشيخ لطلب الهدنة، ومقالات عن الشيخ في صحف عالمية، مثل البرهان والتايمز، وصورة للشيخ صوّرها أسير إسباني، بالإضافة إلى أسلحة قديمة تمثل مقاومة الشيخ ومعدّات حربية وصور مجاهدي المنطقة، وغيرها من الكنوز الناذرة، التي تبقى تُسيّر بفضل التطوع في انتظار التفاتة جدية من المسؤولين.